جيش الاحتلال في العراق بين الفرار والانتحار - بقلم: حسين الرشيد
قامت الحرب الأمريكية في العراق على مجموعة من الإغراءات التي قدمتها
الإدارة الأمريكية السابقة برئاسة (جورج بوش) إلى جنود الاحتلال، وتمنيتهم
بأن تكون الحرب في العراق مهمة سهلة، لا تستغرق سوى بضعة أسابيع، يعودون
بعدها رافعين راية ما يسمونه (التحرير) بعد نشر الديمقراطية المزعومة في
بلدٍ طالما وصفوا النظام الحاكم فيه بالدكتاتورية والتسلط.
غير
أنَّ الحقيقة الناصعة في هذا المقام: أنَّ الرياح جرت بما لم تشتهِ إدارة
البيت الأبيض حينما قررت إشعال الحرب واحتلال العراق منذ ستة أعوام.. فتلك
التوقعات الوردية التي كان يتوقعها مسَّعرو الحرب بأنَّ العراقيين سوف
يستقبلون جنود الاحتلال (التحرير) بالورود قد تبددت، وأصبحت من سخريات
الماضي والحاضر!! ليقع هؤلاء الجنود الغاصبون في مستنقع العراق الذي سقطوا
فيه طواعية وكرهاً، وهم لا يعرفون الخروج منه، إلا وهم على نعوش الموت، أو
أنهم يتمنونه ولا يكادون يحصلون عليه؛ من شدة ما لحق بهم من أذى نتيجة
مشاركتهم العدوانية التي يتحملون مسؤولياتها.. وصار الموت لا يكاد يفارق
فكر وخيال أي جندي من أولئك الجنود.. أو أن تلحق به عاهة جسمية من بترٍ
لليدين أو الرجلين، أو تلحق به حالة نفسية أو عصبية، بما هو أشد من الموت
أحياناً.. بعد أن واجهت قوات الغزو الظالم مقاومة شرسة وحملة شعبية
منظّمة، بشكلٍ فاجأ المجتمع الدولي جميعاً، بما فيها قوات الاحتلال!! إذ
أسقطت المقاومة الباسلة هيبة أمريكا، واستنـزفت قوّاتها العسكرية، وأربكت
اقتصادها وميزانيتها، وأنهت الحلم الإمبراطوري التوسعي الذي كان يراود
الأمريكيين منذ أن انفردت الولايات المتحدة الأمريكية بزعامة العالم..
وبالتالي فإنَّ جيش الاحتلال الأمريكي في العراق أمام أمرين لا ثالث لهما
- اعتماداً على قراءة التاريخ والواقع- إما (عار) الهزيمة بما يلحقهم من
خسران مادي ومعنوي، فضلاً عن الفضائح الأخلاقية التي يمارسها هذا الجيش،
الذي يعتبره محللون من أفضع الجيوش؛ بسبب الفرق القذرة التي يضمها، وإما
(الانتحار) الذي صار صفة ملازمة؛ للتخلص من مرارة الواقع الذي يعيشه
الجندي الأمريكي في العراق، مع ما يلحق بعضهم من قتلٍ، ومرض، وإعاقة،
وحالات نفسية متردية، حسب تقارير كثيرة، سيتضح بعضها بعد قليل.
هزيمة القوة التي لا تقهر..
حكاية
(الهزيمة) الأمريكية في العراق صارت مسألة مفروغاً منها باعتراف بعض
الأمريكيين أنفسهم، ولا داعي للمكابرة؛ لأنَّ أمر ذلك صار متواتراً، ولا
يستطيع أن ينكره لا عدو ولا صديق، بعد أن انطلقت شرارة المقاومة سريعةً
جداً، بل ربما هي الأسرع في تاريخ مقاومة الشعوب للاستعمار، بصورة شديدة
الكفاءة والتميز، لترتفع وتيرتـها يوماً بعد يوم؛ فتزداد أعداد القتلى من
جيش الاحتلال، بما جعل من الصعب على قادة أمريكا وشعبها تحمّل إلحاق
الهزيمة بها( )، بل وإحساسهم بأنَّ مسلسل الخسائر اليومي لأفراد قوات
الاحتلال لا يمكن تحمله طويلاً.
وإذا أردنا القفز على فترة زمنية، من
خلال تصورنا للبداية الحقيقية للهزيمة الأمريكية؛ فإنه لابد من معرفة أنَّ
أمر الهزيمة بدأ بجدية كاملة، بعد انهزام الجمهوريين في انتخابات
الكونجرس، ما دعا الرئيس الأمريكي (جورج بوش) إلى القول بأنَّ كل
الاحتمالات بالنسبة للعراق مفتوحة.
وما رافقه وتبعه من تصريحات بعض
المسؤولين الأمريكيين، بأن الولايات المتحدة ليس لها أن تبقى في العراق
إلى ما لا نهاية، في وقت تستنـزف فيه الثروة المالية الأمريكية، بما أرهق
اقتصاد هذا البلد.
ويعترف كثير من المحللين العسكريين بأنَّ طليعة
الهزيمة الأمريكية في العراق ألقت بظلالها منذ الإطاحة بوزير الدفاع
الأمريكي السابق ومسَّعر الحرب (دونالد رامسفيلد)؛ إذ لم تكن الإطاحة بهذا
الرجل مجرد تغيير وزير، فالرجل أحد أهم رموز المشروع الإمبراطوري
الأمريكي، وأحد أهم مهندسي ومنظري المحافظين الجدد، والمسؤول الأول عن
الحرب في العراق أخلاقياً وقانونياً، وهذا يعني اعترافاً بالفشل، وطريقة
مهمة من طرق الهزيمة التي تلاحق الأمريكيين.
ومن المهم قراءة ما اقترن
بهذه الهزيمة التي مُنيَ بها (رامسفيلد) من إصرار الديمقراطيين، الذين
يشكلون غالبية مجلسي (النواب) و(الشيوخ) الأمريكيين، على ضرورة الانسحاب
من العراق، بعد أن صارت ميزانية الحرب المستعرة في العراق - وأفغانستان-
تحت سيطرتهم، بما أرهق جورج بوش في كثير من الأحيان.
ثم تعزز ذلك بقول
الناخب الأمريكي بكل وضوح (لا لاستمرار الحرب في العراق) يوم أن انتخب
المرشح الديمقراطي (باراك أوباما) الذي رفع شعار (أولوية الخروج من
العراق)، وبالتالي فهو مضطر أمام أبناء الولايات المتحدة الأمريكية إلى
تلبية رغبتهم ورغبته.. في وقتٍ توالت فيه التقارير الأمريكية التي أصدرتها
(أجهزة الاستخبارات) على مدى السنتين الماضيتين، بأنَّ الفشل هو الطريق
الأقرب للأمريكيين، وأنَّ إمكانية تحقيق النصر صارت أمنية لا يمكن نيلها..
لتعضد تلك التقارير تخوف الأمريكيين من التراجع الأمريكي، ففي استطلاع
أجرته شبكة (سي أن أن) الأمريكية منذ عام (2007م) إنَّ (33%) من الذين
استُطلعت آراؤهم متخوفون من التراجع الأمريكي في العراق، و(35%) منهم
واثقون، ويعتري القلق (55%) منهم حول الوضع في العراق.. ويضيف الاستطلاع
أنَّ ثقة الشارع الأمريكي بالحرب تراجعت من (83%) عند بداية الحرب عام
(2003م) إلى (35%) فقط، كما تدهور الاعتداء الأمريكي بها من (65%) إلى
(30%) حالياً (2007م)، وأشار الاستطلاع إلى أنَّ 61% من الشعب الأمريكي لم
يرَ في غزو العراق أي جدوى؛ حيث تواصل تدهور معدل المؤيدين للحرب، ليصل
إلى (37%) العام الماضي، وقف عند (35%) فقط وفق استطلاع أخير.. وبالتالي
فإنَّ الانسحاب (عار الهزيمة) هو النتيجة الحتمية لتلك القوات الغازية.
وبعد
صعود (باراك أوباما) إلى سدة حكم البيت الأبيض، جاء الإعلان الرسمي عن
الهزيمة التي تجرعها مع شدة مرارتها، في خطابه الذي ألقاه في بداية شهر
آذار من عام (2009م) بسحب جنود الاحتلال من العراق سحباً جزئياً ينتهي في
شهر آب من عام (2010م)، على أن يتم سحب كافة جنود الاحتلال بنهاية عام
(2011م)، واعترف بأنه سيبقى في العراق ما بين (35-50) ألف جندي أمريكي
لمهمات غير قتالية، زاعماً أنها ستساعد العراقيين في إعادة الأعمار وتدريب
قوات الشرطة والجيش!!، في وقت يعزو فيه المراقبون أسباب هذا الإعلان إلى
الخسائر المادية بالأرواح والمعدات كما أشرنا قبل قليل، بالتزامن مع الهزة
العنيفة للاقتصاد الأمريكي الذي يشهد تهاوياً لم يشهد له مثيلاً منذ زمن
طويل.. وقد صرح بعض المسؤولين الأوربيين أن الأزمة المالية العالمية وتأثر
أمريكا بها هو سبب قرار الرئيس الجديد بسحب جنوده من العراق!! في وقتٍ
توقّع فيه (باراك أوباما) أن تكلفة الحرب في العراق وأفغانستان ستصل هذا
العام إلى ما يقرب من (140) مليار دولار.
لقد تجرع الرئيس الأمريكي
الجديد مرارة الهزيمة في العراق التي وضعها في عنقه سلفه المهزوم (جورج
بوش) واتخذ قراره الذي يعتقد جميع المعنيين بأنه جاء متأخراً كثيراً؛ بسبب
السياسة الهوجاء التي كانت تمارسها الإدارة السابقة، والتي أودت بالعراق
والعراقيين في مآسٍ كثيرة نتيجة ما تعرضوا له من قتلِ ما يزيد على مليون
وربع المليون من أبنائه، واعتقال عشرات الألوف منهم في صور مذلة، وما
تعرضوا له من تأجيج الفتنة الطائفية، وإذكاء روح العنصرية والقومية،
وإذكاء المشاريع التقسيمية، وإهدار الثروة العراقية، وإشاعة مبدأ المحاصصة
والفساد وهدر الأموال، وما شابه ذلك من أمور جعلت العراق الأسوأ بين بلدان
العالم أمنياً وسياسياً.
وصار موضوع الانسحاب من العراق الحل الأمثل،
الذي لا يمكن العدول عنه لإنقاذ جنود الغزو من المحرقة التي سقطوا فيها،
وبات الجدال منصبّاً على توقيت الانسحاب، وتهيئة الظروف المناسبة له،
فإدارة الرئيس الأمريكي السابق (جورج بوش) حرصت على أن يكون الانسحاب
(منظماً) بحيث لا تهدر معه الكرامة الأمريكية، ولطالما كرر (بوش) ونائبه
(ديك تشيني) عبارتهما الشهيرة "نريد خروجاً مشرّفاً من العراق"، وفي الوقت
ذاته يجب أن يضمن الانسحاب عندهم الحد الأدنى من العملية السياسية في
العراق، فيما يصر الديمقراطيون والرئيس الحالي (باراك أوباما) على
الانسحاب المبكر وفق جدول زمني لخطة الانسحاب؛ مدركين أنَّ كل شهر يمر
يكلفهم خسائر كبيرة بأرواح جنود الغزو هناك، فضلاً عن التكلفة المادية
التي أرهقت أمريكا، وأربكت اقتصادها المتهاوي؛ فعلى حد إفادة الكونجرس
الأمريكي فإنَّ الكلفة الإجمالية لما يسمى الحرب على الإرهاب (الغزو) قد
تصل إلى (14) تريليون دولار بحلول عام (2017م).
والآن وقد تأكد موضوع
(هزيمة جيش الاحتلال الأمريكي)، فما الذي تعنيه لقادة أمريكا؟ وكيف يمكن
تفسيره بالواقع الذي تعيشه الأمة العربية والإسلامية، في ظل ما تتعرض له
من مكايد ومخططات مشبوهة ومؤامرات؟ إنَّ الهزيمة في العراق لها تداعيات
استراتيجية كبرى على مستوى خطورة الصعود الذي تنتظره بعض الدول الهادفة
لنشر مشروعها من ناحية، وعلى مستوى التداعيات بالنسبة لدول المنطقة،
وأيضاً على مستوى إحساس الشعوب بالقدرة على مواجهة العدوان الأمريكي، وعدم
قدرة آلة الحرب العسكرية على إخضاع الشعوب، الأمر الذي سيقلص قدرة
الولايات المتحدة الأمريكية على فرض إرادتها بسهولة على الآخرين.. فضلاً
عن رفع الروح المعنوية لقوى الممانعة - بما فيها قوى المقاومة المسلحة-
للمشروع الأمريكي.. ثم إنَّ الهزيمة في العراق تعني أيضاً فشل المشروع
الإمبراطوري الأمريكي، الذي كان يخطط للقفز على بعض الدول المجاورة وغير
المجاورة للعراق، بل إخضاع المنطقة بالكامل للنفوذ، المتمثل باليمين
الأمريكي (المحافظين الجدد).
بالتالي فإنَّ هناك تعويلاً أوربياً،
ومراهنةً غربية على النصر الأمريكي في العراق، حتى صارت خسارة أمريكا في
العراق خسارة لكل شعوب أوربا، قال رئيس الوزراء البريطاني السابق (توني
بلير) : ((إنَّ هزيمة أمريكا في العراق، هزيمة للغرب كله)) وقال (رئيس
هيئة الأركان الأمريكية المشتركة): ((إنَّ قيمة انتصار أمريكا على
المقاومة العراقية يساوي أو يزيد على الانتصار في الحرب العالمية)) وقال
(هنري كسنجر) قبل سنين: ((إن خسارة أمريكا في العراق معناها خسارة الغرب
لكل ما حققه في الخمسة قرون الماضية)).
عار الفرار ..
من الأمور
التي لحقت بجنود الاحتلال هو (فرارهم من خدمتهم الإلزامية) التي أجبروا
على أدائها في جحيم العراق، بسبب ما لاقوه - وما يلاقونه - من مقاومة
شرسة، حتى بلغت معدلات فرار الجنود الأمريكيين من الخدمة أعلى معدل لها
منذ عام (1980م) وبلغت الزيادة في عددهم حوالي (80%) وذلك منذ بدء غزو
العراق في (نيسان/ مارس) عام (2003م)، ورغم أنَّ العدد ما زال أقل مما كان
عليه خلال الحرب الفيتنامية، إلا أنه أخذ يشهد زيادة كبيرة في السنوات
الأربع الماضية، عندما حقق قفزة بلغت نحو (42%) في العام الماضي، ووفقاً
للجيش الأمريكي فإن تسعة جنود من بين كل ألف جندي فروا من الخدمة عام
(2007م)، ليرتفع عدد الجنود الفارين من الخدمة إلى (4698) جنديّاً، مقارنة
بنحو (7) من كل ألف فروا في العام السابق، والذين بلغ عددهم (3301) جندياً
عام (2006م).
وكشفت صحيفة (نيويورك تايمز) الأمريكية أنَّ عدد الجنود
الذين فروا من الجيش الأمريكي، رفضاً للمشاركة في حرب أمريكا على العراق
وأفغانستان في عام (2006م) بلغ (3196) جندياً، ويزيد هذا الرقم من الجنود
الفارين من الجيش الأمريكي عن العدد الذي تم تسجيله في العام الذي سبقه
(2005م) بواقع (853) جندياً.
وقد كشفت مجلة (دير شبيجل) أنَّ أكثر من
(25) ألف جندي أمريكي هربوا من الخدمة العسكرية منذ بداية الحرب في العراق
ولغاية منتصف العام الماضي.. وقد قال أول جندي أمريكي يهرب من العراق
ويطلب اللجوء السياسي في ألمانيا: إنَّ قرار لجوئه إلى ألمانيا جاء بسبب
عدم رغبته في مساعدة بلادهِ على قتل الأبرياء!!.
أما ما يخص الجيش
البريطاني - الذي يعدُّ ثاني أكبر الجيوش المشاركة في احتلال العراق بواقع
(7100) جندي- فقد كشفت وزارة الدفاع البريطانية منذ عام (2006م) عن ارتفاع
وتيـرة فرار الجنود البريطانيين من الخدمة في الجيش بعد احتلال العراق منذ
عام (2003م)، وأكدت الوزارة بأنَّ عدد هؤلاء الجنود البريطانيين الذين
هربوا أو تغيبوا عن الخدمة دون عذر وصل إلى (11 ألف جندي)، وأوضحت الوزارة
أنَّ عدد الجنود الذين فروا هذا العام وحده (2006م) بلغ (283) جندياً،
بينما بلغ عدد الفارين العام الذي سبقه (2005م) حوالي (279) جندياً، في
حين وصل عددهم خلال العام الذي سبقه (2004م) ما يقرب من (157) جندياً.
إنَّ
ظاهرة فرار جنود الاحتلال - بمختلف تشكيلاتهم - يؤكد حقائق لابد من التطرق
إليها والكشف عنها، فهي في حقيقتها تعكس مدى الضغط الذي تتعرض له قوات
الاحتلال، نتيجة المقاومة الشرسة والمنظمة التي يلاقونها بوتيرة متناسقة
دون انقطاع منذ بداية الغزو ولحد هذه اللحظة، فضلاً عن حقيقة التفكك
الرهيب الذي تعيشه تشكيلات تلك الجيوش الغازية بعد أن صحت ضمائر بعض هؤلاء
الجنود في مواجهة التحدي الذي يواجه تلك الجيوش، بعد غياب العامل الوجداني
الذي جاءوا من أجله بحجة تحرير العراقيين من الظلم والاستعباد، بعد أن
تكشف لهم زيف الادعاءات والإغراءات التي مُني بها أولئك الجنود.
انتحار الجنود ..
تشير
مجموعة كبيرة من التقارير المختلفة إلى تنامي حالة الانتحار، التي بدت تقض
مضاجع مسؤولي إدارة البيت الأبيض – السياسيين منهم والعسكريين على حد سواء
- وزاد اهتمامهم بها، وهذه التقارير هي توضيح مناسب لهذه الحالة الخطيرة
التي يتعرض لها جنود الاحتلال، بعد أن أوصلهم إدراكهم بأنَّ الموت أكثر
راحة لهم بكثير من العيش في حياة مليئة بالذل والهوان، بعد أن عجزوا عن
تحقيق المهمة التي طالما كان يحلم بتحقيقها سيد البيت الأبيض السابق (جورج
بوش) بعد أن قال مراراً أن القوات الأمريكية لن تغادر ما لم تحقق مهمتها
في العراق، وهي مهمة مجهولة لا يعلم أحد أي شيء عنها، بما فيهم المشتركون
في العملية السياسية الحالية، ضمن المشروع الأمريكي بعد الاحتلال!!.
وقد
أكدت دراسة أصدرها معهد الصحة النفسية في (ولاية ميرلاند)، وهو أعلى جهة
حكومية بالولايات المتحدة في مجال الصحة النفسية: أنَّ عدد جنود الولايات
المتحدة الذين انتحروا بعد عودتهم من العراق يمكن أن يفوق عدد الجنود
الذين قتلوا هناك منذ احتلاله بحسب الأرقام الأمريكية المعلنة التي يشكك
المتابعون كثيراً بصحتها.
واستند المعهد في استنتاجه إلى جهات حكومية
متعددة، منها وزارة الدفاع الأمريكية (البنتاجون)، إلا أن الناطقة باسم
الوزارة (سينثيا سميث) رفضت نفي النتيجة أو تأكيدها، لكنها قالت: إن
المسؤولين في (البنتاجون) ينظرون إلى حوادث انتحار الجنود الأمريكيين
العائدين من العراق باهتمام كبير!! وقالت الدراسة التي أشرف عليها مدير
المعهد توماس أنسيل: إنَّ البحث امتد لشهور، وتعاونت فيه جهات حكومية
متعددة، منها وزارة الدفاع.
وكانت قضية انتحار (العائدين من العراق)
قد شغلت أجهزة الإعلام الأمريكية لبعض الوقت إلا أنها لم تخضع من قبل
لدراسة إحصائية من جهة لها مصداقية.. وسبق أن أصدر (معهد رانـد) دراسة قال
فيها إن (20%) من الجنود الأمريكيين الذين شاركوا في معارك بالعراق
وأفغانستان يعانون من اضطرابات نفسية شديدة، غير أن دراسة (رانـد) لم تلج
إلى مجال الربط بين وقائع الانتحار وهذه الاضطرابات، ولم تقدم مسحاً
إحصائياً لتلك الوقائع.
وتؤكد التقارير أن عام (2003م) شهد ما يقرب من
(79) حالة انتحار بين جنود الاحتلال الأمريكي، منهم (26) جندياً ضمن
القوات القتالية، بنسبة تتجاوز (12,4) حالة بين كل مائة ألف جندي.
وسُجّل ما يقرب من (141) حالة انتحار خلال الفترة ما بين (2002م) و(2005م).
ودلت
أرقام الجيش على أن أكثر من ألفي جندي حاولوا الانتحار خلال عام (2006م)
وبلغ عدد الجنود الذين انتحروا بالفعل (102) جندياً خلال ذلك العام.
وقد
نقلت (سي أن أن) أنَّ دراسة عسكرية لوزارة الدفاع الأمريكية (البنتاغون)
خلصت إلى أنَّ معدل انتحار أفراد القوات الأمريكية ارتفع خلال عام (2007م)
إلى أعلى مستوى له منذ أكثر من عشرين عاماً.. وبحسب تقارير صادرة عن جيش
الاحتلال الأمريكي، فإنَّ عدد حالات الانتحار بين الجنود الأمريكيين خلال
عام (2007م) بلغ (115) حالة، مقارنة بـ(102) حالة في عام (2006م) الذي كان
هو الآخر يعدّ الأعلى خلال العشرين عاماً الأخيرة.. ويقرّ البنتاغون بأنَّ
السنوات الخمس الأخيرة التي شهدت عمليات عسكرية واسعة في العراق
وأفغانستان قد سجلت ارتفاعاً غير مسبوق في حالات انتحار الجنود الذين ما
زالوا في الخدمة، فيما أشارت الدراسة نفسها إلى أنَّ أكثر من حالتين من
بين كل خمس حالات انتحار لجنود عادوا للتو إلى وطنهم من أماكن القتال التي
يتوزعون عليها في الخارج (العراق وأفغانستان).
غير أنَّ حصيلة عام
(2008م) بشكل عام كانت الأعلى منذ بدء عمليات الإحصاء قبل ثمانية وعشرين
عاماً؛ إذ سجل انتحار (133) جندياً، والذي كان بدوره الرقم الأعلى منذ بدء
الاحتلال بإحصاء عدد المنتحرين في جيشه.. وأشارت التقارير أنه في شهر
كانون الثاني من عام (2009م) زاد عدد الجنود الذين انتحروا على عدد
زملائهم الذين قتلوا بستة أضعاف، وحتى ضمن القوات البحرية "المارينز"،
وبينت الإحصاءات أن عدد المنتحرين من الجنود قد زاد عام (2008م) ليصل إلى
(33)، مقارنة بـ(25) منتحراً عام (2007م) حتى أنها تجاوزت جميع الأرقام
التاريخية.. وهذا ما دفع قاعدة "فورت كامبل العسكرية الأمريكية" إلى إغلاق
أبوابها، بعد توالي حوادث الانتحار بين جنودها.. حتى وصلت نسبة حالات
الانتحار المؤكدة إلى (20.2%) من كل مائة ألف حالة.
وتفيد إحصائيات
الجيش الأمريكي أنَّ (30%) من عمليات الانتحار قام بها جنود لدى إرسالهم
في مهمات، وأنَّ ثلاثة أرباع هؤلاء الجنود كانوا يقومون بأولى عملياتهم..
كما تشير الإحصاءات إلى انتحار جندي من كل ثلاثة أي بنسبة (35%) لدى عودته
من مهمة استغرقت عموماً أكثر من سنة؛ إذ عمد الجيش إلى وضع برامج وقائية،
واتخاذ تدابير للتعرف إلى الجنود الذين يعانون من مشاكل نفسية.
فقد
أقدم (24) جندياً من سلاح البر الأمريكي على الانتحار في العراق، و(39)
بعد عودتهم من الحرب، وذلك ابتداءً من مطلع عام (2008م) وحتى شهر آب من
العام نفسه.
وأوضحت بعض الدراسات: أنَّ عمليات الانتحار مرتبطة بشكل
كبير بعمليات الطلاق، أو الانفصال، أو بسبب الصعوبات المالية، أو لأسباب
أخرى.
ومما يذكر أنَّ جندياً تلقى بريداً من زوجته تقول له فيه (أريد الطلاق)، ثم انتحر.
وهناك
عامل آخر في هذه العمليات وهو الإرهاق الذي يعانيه بعض الجنود لدى عودتهم
والذي قد يؤدي إلى تشويش علاقاتهم الشخصية.. وعلى سبيل المثال: بين الجنود
الـ(102) الذين انتحروا في عام (2006م) هناك (72) جندياً لم يكونوا في
الخارج و (27) كانوا في العراق وثلاثة في أفغانستان.
ومعظم الجنود
الذين انتحروا هم من الشباب الذين تتراوح أعمارهم بين (18) و(24) عاماً،
ولكنَّ الخبراء بدأوا يتحدثون عن ارتفاع عمليات الانتحار لدى الأكبر سناً
وفي صفوف النساء، حيث انتحرت (11) امرأة في (2006م) من اللاتي يخدمن في
صفوف الجيش الأمريكي.
ولعل ملخص هذا الموضوع ما ذكره نائب رئيس أركان
الجيش الجنرال (بيتر شياريللي) الذي ربط حالة ارتفاع عدد المنتحرين من
الجنود الأمريكيين بطول المدة، والوتيرة المتزايدة للمهمات التي تعقد
العلاقات بين الجنود وعائلاتهم.. ورجحت مصادر طبية أن يكون للأمر علاقة
بأشهر الشتاء الباردة والقاسية، وتزايد المهام المرهقة، والإكثار من
الأدوية المضادة للاكتئاب.
وقد نبهت كبيرة أخصائيي علم النفس لدى
قوات الاحتياط الأمريكية (العقيد كاثي بلاتوني) إلى أنَّ الكثير من
الأدوية المضادة للاكتئاب التي يتناولها الجنود تترك آثاراً جانبية، تغذي
فكرة الانتحار لديهم، وخاصة أولئك الذين تتراوح أعمارهم ما بين 18-24
عاماً.
حالة جنود الاحتلال ..
لا يعدو أنَّ يلقى الجندي
الأمريكي نصيبه الحتمي في العراق، فما بين قتله، أو عيشه برعب وخوف دائم
بما يجعل الموت وسيلة راحة من الحياة، وما بين إصابته بحالة نفسية، أو
إعاقة دائمة في جسده، من بتر اليدين أو الرجلين أو أحدهما، أو تشوه خلقي،
وما شابه ذلك.
هناك تقارير ودراسات توضح الحالة الطبية والنفسية التي
يعيشها جنود الاحتلال، سواء في ساحة المعركة في العراق، أو بعد إعاقتهم
ونقلهم إلى بعض المستشفيات خارج العراق، أو بعد انتهاء مدة خدمتهم وعودتهم
إلى وطنهم.
ووفقاً لما أظهرته الإحصائيات؛ فإنَّ عدد حالات الإصابة
بأحد الأمراض النفسية أو العقلية بين الجنود الذين خدموا في العراق أو
أفغانستان زاد بنسبة (58%) خلال عام واحد، فقفزَ العدد من (63.767) ألف
مريض بنهاية شهر حزيران عام (2006م) إلى (100.580) ألف مريض بنفس الشهر من
عام (2007م).. بينما زادت حالات الإصابة بمرض نفسي واحد فقط يُعرف
بـ"اضطراب ما بعد الصدمة" وهو نوع من الاضطرابات العصبية، بنسبة (70%)
خلال نفس الفترة المتقدمة؛ ليصل بذلك عدد المصابين بهذا المرض إلى ما يقرب
من (50) ألفاً، وهو رقم يزيد كثيراً عن رقم الـ(30) ألفاً، الذين تعترف
بهم وزارة الدفاع رسمياً كمصابين في معارك أفغانستان والعراق، وهو ما يعني
أن الكثير من المرضى الذين يصابون بأمراض نفسية نتيجة القتال، يتم حسابهم
ضمن أعداد المصابين.
ومن نافلة القول معرفة أنَّ مرض (اضطراب ما بعد
الصدمة) الذي يعرّف بأنه (اضطراب نفسي خاص يتبع تعرض الشخص لحدث مؤلم جداً
"صدمة" ويتخطى حدود التجربة الإنسانية المألوفة) لم يكن موجوداً في قاموس
الطب النفسي، غير أنه بدأ تدريجياً في الظهور عقب انتهاء الحرب العالمية
الثانية، حيث اكتشفت بعض الأعراض النفسية على الجنود في ميادين الحرب،
ولكن هذا تم تعميمه على ما يحدث عقب الكوارث كالزلازل والفيضانات والصدمات
الكبيرة في الحياة والتي تشمل مجموعات كبيرة من الناس.
وفي إحصائية
نشرت منتصف عام (2008م) بينت ارتفاع نسبة حالات الإصابة باضطرابات ما بعد
الصدمة بين الجنود الأمريكيين الذين خدموا في أفغانستان والعراق بنسبة
(46.4%) في العام (2007م)؛ ليبلغ العدد الإجمالي لحالات الإصابة حوالي
(40) ألف حالة في سنوات الاحتلال الخمس الماضية.
وبحسب إحصاءات أصدرها
الجيش الأمريكي؛ فإنَّ عدد الحالات التي شُخِّصت على أنها "اضطرابات نتيجة
التعرض لصدمات" ارتفع حتى نشر التقرير من (9.549) حالة في عام (2006م) إلى
(13.981) حالة عام (2007م)؛ وذلك في ظل زيادة فترة خدمة الجندي في العراق
من سنة واحدة إلى (15) شهراً, وإرسال المزيد من القوات لمجابهة المقاومة
الساخنة بالعراق وأفغانستان؛ ليصل عدد المصابين الإجمالي إلى (39.366)
حالة في المدة من أول كانون الثاني (2003م) إلى آخر كانون الأول (2007م)..
وأفادت الإحصائية: أنَّ المصابين يشكلون تفصيلاً (28.365) حالة بين أفراد
الجيش, و(5.641) حالة بين مشاة البحرية, و(2.884) بين أفراد البحرية,
و(2.476) بين القوات الجوية.
وعلق الجرّاح في جيش الاحتلال الأمريكي
الجنرال الطبيب (إريك شوميكر) على تلك الأرقام بالقول: إن (المسؤولين لا
يملكون أرقاماً وبيانات يمكن الاعتماد عليها حول عدد الجنود الذين يعانون
من خلل نفسي أو توتر بعد العودة من الحرب أو عدد الجنود الذين سعوا إلى
الحصول على علاج لأعراض هذا الخلل بعد العودة من العراق أو أفغانستان).
وأضاف
إن (ارتفاع عدد الجنود المصابين بهذا النوع من الخلل النفسي في السنوات
الأخيرة يعود إلى زيادة الوعي وتتبع مثل هذه الحالات في الجيش فضلاً عن
تعرض المزيد من القوات لعمليات قتالية).
واعتبر أن (تلك الأرقام لا
تعكس المعدل الحقيقي نظراً لأن عدداً من المصابين بتلك الأعراض لا يسعون
إلى العلاج أو أن بعضاً من المصابين هم من المدنيين العاملين مع الجيش).
ووفقاً
لأرقام وزارة الدفاع (البنتاجون) فإن قوات جيش الاحتلال ومشاة البحرية
شهدت ارتفاعاً كبيراً في عدد الحالات المصابة بخلل نفسي وتوتر بسبب الحرب
حيث بلغ ذلك العدد في قوات جيش الاحتلال (23.365) فيما بلغ في قوات
المارينـز (5.641) جندياً.
بل إنَّ مؤسسة (راند كوربوريشن) أوضحت في
دراسة أعدتها بأنَّ ما لا يقل عن (300) ألف جندي أمريكي من أصل مليون
وستمائة ألف جندي يعانون من اضطرابات نفسية منذ العام (2001م).
ويوجد
لدى جيش الاحتلال في العراق أربع عيادات، يعمل فيها أطباء نفسانيون
وأخصائيون في علم النفس، إلى جانب مرشدين اجتماعيين وممرضين، ويمكن بقاء
جنود الاحتلال فيها؛ لمجرد تبادل الحديث، أو المعالجة، أو للاستراحة فقط.
ولعلَّ
أكبر تلك العيادات تلك التي في (معسكر ليبرتي) الذي يعد من أكبر القواعد
العسكرية الأمريكية في العالم، ويقع قرب مطار بغداد، ويتمركز فيه ما لا
يقل عن خمسين ألف جندي أمريكي.
وتخصص لجنود الاحتلال الأمريكي عيادة
لمعالجة (الإجهاد الناجم عن المعارك)؛ إذ يتم فيها استقبال الجنود من قبل
طبيبٍ نفساني يقوم بتشخيص العلة ووصف العلاج المناسب لها، وفضلاً عن ذلك
يتلقى المريض في تلك العيادة بعض الإرشادات والتوجيهات النفسية التي تلقى
عليه أو تكتب له على جدران العيادة، ولعل من أهمها مخاطبة الجنود بالقول
(لا تترك أبداً زميلاً يقاتل وحده، اصغِ إليه؛ فليست كل الجروح مرئية،
ومنع الانتحار من مسؤولياتك، يجب جلب المساعدة لرفيقك)!!.
ومع كل ذلك؛
فإن ثمة انتقادات لا تنقطع عن إهمال المسؤولين والأطباء الأمريكيين للجنود
الذين يتعرضون لإصابات خلال المعارك التي يشاركون فيها.. ويتمثل ذلك
الإهمال بحالات متعددة أهمها ما يأتي:
1- الإهمال الصحي: وكانت فضيحة
هذا الإهمال لجنود الاحتلال بعد تعرضهم للإصابات وعدم الاكتراث بحالتهم
الصحية، قد تفجّرت في الولايات المتحدة بعدما كشفت صحيفة (واشنطن بوست) عن
المشكلات التي يعاني منها الجنود في مستشفى (ولتر ريد) والتي تعّد أكبر
مستشفى عسكري أمريكي إذ قالت: إنَّ الجنود يستكملون علاجهم هناك في مبنى
متداعٍ يعج بالفئران والغبار والصراصير.. وأكدت أن (البيروقراطية) في هذه
المستشفى تعيق تقديم المساعدات لجنود مصابين بإصابات بالغة.
2- الإهمال
الاجتماعي: بسبب عدم إدراج جملة كبيرة من جنود الاحتلال ضمن قوائم
المصابين، وقد فجرّت صحيفة (يو أس أي توداي) الأمريكية فضيحة جديدة لوزارة
الدفاع (البنتاغون) حيث كشفت عن وجود ما لا يقل عن (20) ألف جندي شاركوا
في القتال بالعراق وأفغانستان، إلا أنهم غير مدرجين على قوائم الجيش
كمصابين، في حين أنهم يعانون من إصابات في المخ نتيجة المهام القتالية.
وفي
جزئية أخرى، تقول إحدى الدراسات أيضاً: إنَّ جنود أمريكا العائدين من
العراق يعانون من أمراض رئوية، قد تودي بحياة المصاب أو تربكها على أقل
تقدير.. وقد أظهرت دراسة جديدة نشرتها مجلة (ويب ميديكال نيوز) الأميركية
أنّ مجموعة كبيرة من الجنود الأميركيين القدامى العائدين من العراق يعانون
من أمراض رئوية.
وكشفت الدراسة أن هؤلاء الجنود يعانون من أحد أنواع
الأمراض الرئوية الذي يصيب القصيبات الهوائية في الرئة، لافتة إلى أن
التهاب القصيبات ينتج عن أسباب عدة منها استنشاق السموم، أو الالتهابات
الجرثومية، أو مرض الروماتيزم.
وأوضح الباحثون الذين أجروا الدراسة:
أن الفحوصات الوظيفية للرئة والفحوصات الشعاعية التي أجريت على (56)
جندياً من الذين بدت عليهم أعراض المرض الرئوي لم تـشر إلى وجود أية
علامات مرضية، لكن تحليل أنسجة الرئة (Biopsy) أظهر فيما بعد تعرض نحو
(30) منهم لالتهاب القصيبات الرئوية، وأن معظمهم شخّصت حالاتهم على وجود
إصابة بالمرض بسبب تعرضهم لفترات طويلة إلى غاز ثاني أوكسيد الكبريت الذي
نتج عن اندلاع حريق في منجم للكبريت قرب إحدى مناطق محافظة الموصل شمال
العراق.
وأوضحت وزارة الدفاع الأميركية أن الدلائل تشير إلى أن
جماعات مسلحة كانت وراء اندلاع هذا الحريق الذي يؤكد المختصون أنه الأكبر
من نوعه على الإطلاق.
وأكدت الفحوصات التي قام بها الجيش الأميركي لنماذج من الهواء في المنطقة حصول التلوث بغاز ثاني أوكسيد الكبريت بنسب ذات سمية واضحة.
وإذا
اتضح ما تقدم؛ فإنَّ من المؤكد أن الحالة النفسية المزرية التي يصاب بها
المعتدون على البلدان المنكوبة لا تحصر إصابتها بالجنود المحتلين، بل
تلاحق حتى السياسيين المتواجدين هناك، نتيجة الضغوط والخوف والقلق الذي
يرافقهم ولا يكاد ينفك عن أحد منهم، وقد أوضحت دراسة بأن (40%) من
دبلوماسيّ أمريكا يعانون أمراضاً نفسية، خاصة في العراق وأفغانستان.
أما
ما يتعلق بجراحة الجنود وبتر الأطراف بسبب الإصابات التي يتعرضون لها في
ساحة الحرب نتيجة المواجهات المستمرة في العراق؛ فقد كشفت صحيفة
(الأوبزرفر) البريطانية أنَّ معدلات عمليات بتر الأطراف التي أجراها
الجراحون العسكريون للجنود الأمريكيين في العراق، قد ازدادت بمعدل الضعف،
مقارنة بالمستويات التي سُجلت في الحروب السابقة، وأشارت الصحيفة إلى أنَّ
(6%) من المصابين من الجنود الأمريكيين هناك يحتاجون إلى عمليات بتر،
مقارنة بـ(3%) في مناطق الصراع الأخرى.
ويؤكد جراح تقويم الأعضاء في
المستشفى العسكري التي تعالج جنود الاحتلال الأمريكي وبعض القوات الأمنية
الحكومية المتعاونة معها في الموصل (الكولونيل وين موسلي) أنَّ الإصابات
الخطرة التي تتطلب البتر وتركيب أطراف اصطناعية تصل إلى (80%) من الإصابات.
أما
جنود بريطانيا، فهم أيضاً يعيشون أياماً مأساوية في العراق، وقد أكدت صحف
بريطانية أن جنود الاحتلال البريطاني العائدين من العراق وأفغانستان
يعانون من مستويات غير مسبوقة من مشاكل الصحة العقلية, إضافة إلى إهمالهم
وتجاهلهم ونسيانهم من قبل الحكومة البريطانية.. وقالت صحيفة (الأندبندنت
أون صنداي): إنً حوالي (21) ألفاً من الجنود البريطانيين - من الذين أدّوا
الخدمة في العراق أو جنود الاحتياط - قد مسّتهم أمراض نفسية من قبيل القلق
والاكتئاب، وإنَّ الأرقام الرسمية تشير إلى (20) عسكرياً بريطانياً أقدموا
على قتل أنفسهم منذ غزو العراق في مارس عام (2003م), فيما يعيش أكثر من
ألف جندي سابق مشردين بلا مأوى.
قامت الحرب الأمريكية في العراق على مجموعة من الإغراءات التي قدمتها
الإدارة الأمريكية السابقة برئاسة (جورج بوش) إلى جنود الاحتلال، وتمنيتهم
بأن تكون الحرب في العراق مهمة سهلة، لا تستغرق سوى بضعة أسابيع، يعودون
بعدها رافعين راية ما يسمونه (التحرير) بعد نشر الديمقراطية المزعومة في
بلدٍ طالما وصفوا النظام الحاكم فيه بالدكتاتورية والتسلط.
غير
أنَّ الحقيقة الناصعة في هذا المقام: أنَّ الرياح جرت بما لم تشتهِ إدارة
البيت الأبيض حينما قررت إشعال الحرب واحتلال العراق منذ ستة أعوام.. فتلك
التوقعات الوردية التي كان يتوقعها مسَّعرو الحرب بأنَّ العراقيين سوف
يستقبلون جنود الاحتلال (التحرير) بالورود قد تبددت، وأصبحت من سخريات
الماضي والحاضر!! ليقع هؤلاء الجنود الغاصبون في مستنقع العراق الذي سقطوا
فيه طواعية وكرهاً، وهم لا يعرفون الخروج منه، إلا وهم على نعوش الموت، أو
أنهم يتمنونه ولا يكادون يحصلون عليه؛ من شدة ما لحق بهم من أذى نتيجة
مشاركتهم العدوانية التي يتحملون مسؤولياتها.. وصار الموت لا يكاد يفارق
فكر وخيال أي جندي من أولئك الجنود.. أو أن تلحق به عاهة جسمية من بترٍ
لليدين أو الرجلين، أو تلحق به حالة نفسية أو عصبية، بما هو أشد من الموت
أحياناً.. بعد أن واجهت قوات الغزو الظالم مقاومة شرسة وحملة شعبية
منظّمة، بشكلٍ فاجأ المجتمع الدولي جميعاً، بما فيها قوات الاحتلال!! إذ
أسقطت المقاومة الباسلة هيبة أمريكا، واستنـزفت قوّاتها العسكرية، وأربكت
اقتصادها وميزانيتها، وأنهت الحلم الإمبراطوري التوسعي الذي كان يراود
الأمريكيين منذ أن انفردت الولايات المتحدة الأمريكية بزعامة العالم..
وبالتالي فإنَّ جيش الاحتلال الأمريكي في العراق أمام أمرين لا ثالث لهما
- اعتماداً على قراءة التاريخ والواقع- إما (عار) الهزيمة بما يلحقهم من
خسران مادي ومعنوي، فضلاً عن الفضائح الأخلاقية التي يمارسها هذا الجيش،
الذي يعتبره محللون من أفضع الجيوش؛ بسبب الفرق القذرة التي يضمها، وإما
(الانتحار) الذي صار صفة ملازمة؛ للتخلص من مرارة الواقع الذي يعيشه
الجندي الأمريكي في العراق، مع ما يلحق بعضهم من قتلٍ، ومرض، وإعاقة،
وحالات نفسية متردية، حسب تقارير كثيرة، سيتضح بعضها بعد قليل.
هزيمة القوة التي لا تقهر..
حكاية
(الهزيمة) الأمريكية في العراق صارت مسألة مفروغاً منها باعتراف بعض
الأمريكيين أنفسهم، ولا داعي للمكابرة؛ لأنَّ أمر ذلك صار متواتراً، ولا
يستطيع أن ينكره لا عدو ولا صديق، بعد أن انطلقت شرارة المقاومة سريعةً
جداً، بل ربما هي الأسرع في تاريخ مقاومة الشعوب للاستعمار، بصورة شديدة
الكفاءة والتميز، لترتفع وتيرتـها يوماً بعد يوم؛ فتزداد أعداد القتلى من
جيش الاحتلال، بما جعل من الصعب على قادة أمريكا وشعبها تحمّل إلحاق
الهزيمة بها( )، بل وإحساسهم بأنَّ مسلسل الخسائر اليومي لأفراد قوات
الاحتلال لا يمكن تحمله طويلاً.
وإذا أردنا القفز على فترة زمنية، من
خلال تصورنا للبداية الحقيقية للهزيمة الأمريكية؛ فإنه لابد من معرفة أنَّ
أمر الهزيمة بدأ بجدية كاملة، بعد انهزام الجمهوريين في انتخابات
الكونجرس، ما دعا الرئيس الأمريكي (جورج بوش) إلى القول بأنَّ كل
الاحتمالات بالنسبة للعراق مفتوحة.
وما رافقه وتبعه من تصريحات بعض
المسؤولين الأمريكيين، بأن الولايات المتحدة ليس لها أن تبقى في العراق
إلى ما لا نهاية، في وقت تستنـزف فيه الثروة المالية الأمريكية، بما أرهق
اقتصاد هذا البلد.
ويعترف كثير من المحللين العسكريين بأنَّ طليعة
الهزيمة الأمريكية في العراق ألقت بظلالها منذ الإطاحة بوزير الدفاع
الأمريكي السابق ومسَّعر الحرب (دونالد رامسفيلد)؛ إذ لم تكن الإطاحة بهذا
الرجل مجرد تغيير وزير، فالرجل أحد أهم رموز المشروع الإمبراطوري
الأمريكي، وأحد أهم مهندسي ومنظري المحافظين الجدد، والمسؤول الأول عن
الحرب في العراق أخلاقياً وقانونياً، وهذا يعني اعترافاً بالفشل، وطريقة
مهمة من طرق الهزيمة التي تلاحق الأمريكيين.
ومن المهم قراءة ما اقترن
بهذه الهزيمة التي مُنيَ بها (رامسفيلد) من إصرار الديمقراطيين، الذين
يشكلون غالبية مجلسي (النواب) و(الشيوخ) الأمريكيين، على ضرورة الانسحاب
من العراق، بعد أن صارت ميزانية الحرب المستعرة في العراق - وأفغانستان-
تحت سيطرتهم، بما أرهق جورج بوش في كثير من الأحيان.
ثم تعزز ذلك بقول
الناخب الأمريكي بكل وضوح (لا لاستمرار الحرب في العراق) يوم أن انتخب
المرشح الديمقراطي (باراك أوباما) الذي رفع شعار (أولوية الخروج من
العراق)، وبالتالي فهو مضطر أمام أبناء الولايات المتحدة الأمريكية إلى
تلبية رغبتهم ورغبته.. في وقتٍ توالت فيه التقارير الأمريكية التي أصدرتها
(أجهزة الاستخبارات) على مدى السنتين الماضيتين، بأنَّ الفشل هو الطريق
الأقرب للأمريكيين، وأنَّ إمكانية تحقيق النصر صارت أمنية لا يمكن نيلها..
لتعضد تلك التقارير تخوف الأمريكيين من التراجع الأمريكي، ففي استطلاع
أجرته شبكة (سي أن أن) الأمريكية منذ عام (2007م) إنَّ (33%) من الذين
استُطلعت آراؤهم متخوفون من التراجع الأمريكي في العراق، و(35%) منهم
واثقون، ويعتري القلق (55%) منهم حول الوضع في العراق.. ويضيف الاستطلاع
أنَّ ثقة الشارع الأمريكي بالحرب تراجعت من (83%) عند بداية الحرب عام
(2003م) إلى (35%) فقط، كما تدهور الاعتداء الأمريكي بها من (65%) إلى
(30%) حالياً (2007م)، وأشار الاستطلاع إلى أنَّ 61% من الشعب الأمريكي لم
يرَ في غزو العراق أي جدوى؛ حيث تواصل تدهور معدل المؤيدين للحرب، ليصل
إلى (37%) العام الماضي، وقف عند (35%) فقط وفق استطلاع أخير.. وبالتالي
فإنَّ الانسحاب (عار الهزيمة) هو النتيجة الحتمية لتلك القوات الغازية.
وبعد
صعود (باراك أوباما) إلى سدة حكم البيت الأبيض، جاء الإعلان الرسمي عن
الهزيمة التي تجرعها مع شدة مرارتها، في خطابه الذي ألقاه في بداية شهر
آذار من عام (2009م) بسحب جنود الاحتلال من العراق سحباً جزئياً ينتهي في
شهر آب من عام (2010م)، على أن يتم سحب كافة جنود الاحتلال بنهاية عام
(2011م)، واعترف بأنه سيبقى في العراق ما بين (35-50) ألف جندي أمريكي
لمهمات غير قتالية، زاعماً أنها ستساعد العراقيين في إعادة الأعمار وتدريب
قوات الشرطة والجيش!!، في وقت يعزو فيه المراقبون أسباب هذا الإعلان إلى
الخسائر المادية بالأرواح والمعدات كما أشرنا قبل قليل، بالتزامن مع الهزة
العنيفة للاقتصاد الأمريكي الذي يشهد تهاوياً لم يشهد له مثيلاً منذ زمن
طويل.. وقد صرح بعض المسؤولين الأوربيين أن الأزمة المالية العالمية وتأثر
أمريكا بها هو سبب قرار الرئيس الجديد بسحب جنوده من العراق!! في وقتٍ
توقّع فيه (باراك أوباما) أن تكلفة الحرب في العراق وأفغانستان ستصل هذا
العام إلى ما يقرب من (140) مليار دولار.
لقد تجرع الرئيس الأمريكي
الجديد مرارة الهزيمة في العراق التي وضعها في عنقه سلفه المهزوم (جورج
بوش) واتخذ قراره الذي يعتقد جميع المعنيين بأنه جاء متأخراً كثيراً؛ بسبب
السياسة الهوجاء التي كانت تمارسها الإدارة السابقة، والتي أودت بالعراق
والعراقيين في مآسٍ كثيرة نتيجة ما تعرضوا له من قتلِ ما يزيد على مليون
وربع المليون من أبنائه، واعتقال عشرات الألوف منهم في صور مذلة، وما
تعرضوا له من تأجيج الفتنة الطائفية، وإذكاء روح العنصرية والقومية،
وإذكاء المشاريع التقسيمية، وإهدار الثروة العراقية، وإشاعة مبدأ المحاصصة
والفساد وهدر الأموال، وما شابه ذلك من أمور جعلت العراق الأسوأ بين بلدان
العالم أمنياً وسياسياً.
وصار موضوع الانسحاب من العراق الحل الأمثل،
الذي لا يمكن العدول عنه لإنقاذ جنود الغزو من المحرقة التي سقطوا فيها،
وبات الجدال منصبّاً على توقيت الانسحاب، وتهيئة الظروف المناسبة له،
فإدارة الرئيس الأمريكي السابق (جورج بوش) حرصت على أن يكون الانسحاب
(منظماً) بحيث لا تهدر معه الكرامة الأمريكية، ولطالما كرر (بوش) ونائبه
(ديك تشيني) عبارتهما الشهيرة "نريد خروجاً مشرّفاً من العراق"، وفي الوقت
ذاته يجب أن يضمن الانسحاب عندهم الحد الأدنى من العملية السياسية في
العراق، فيما يصر الديمقراطيون والرئيس الحالي (باراك أوباما) على
الانسحاب المبكر وفق جدول زمني لخطة الانسحاب؛ مدركين أنَّ كل شهر يمر
يكلفهم خسائر كبيرة بأرواح جنود الغزو هناك، فضلاً عن التكلفة المادية
التي أرهقت أمريكا، وأربكت اقتصادها المتهاوي؛ فعلى حد إفادة الكونجرس
الأمريكي فإنَّ الكلفة الإجمالية لما يسمى الحرب على الإرهاب (الغزو) قد
تصل إلى (14) تريليون دولار بحلول عام (2017م).
والآن وقد تأكد موضوع
(هزيمة جيش الاحتلال الأمريكي)، فما الذي تعنيه لقادة أمريكا؟ وكيف يمكن
تفسيره بالواقع الذي تعيشه الأمة العربية والإسلامية، في ظل ما تتعرض له
من مكايد ومخططات مشبوهة ومؤامرات؟ إنَّ الهزيمة في العراق لها تداعيات
استراتيجية كبرى على مستوى خطورة الصعود الذي تنتظره بعض الدول الهادفة
لنشر مشروعها من ناحية، وعلى مستوى التداعيات بالنسبة لدول المنطقة،
وأيضاً على مستوى إحساس الشعوب بالقدرة على مواجهة العدوان الأمريكي، وعدم
قدرة آلة الحرب العسكرية على إخضاع الشعوب، الأمر الذي سيقلص قدرة
الولايات المتحدة الأمريكية على فرض إرادتها بسهولة على الآخرين.. فضلاً
عن رفع الروح المعنوية لقوى الممانعة - بما فيها قوى المقاومة المسلحة-
للمشروع الأمريكي.. ثم إنَّ الهزيمة في العراق تعني أيضاً فشل المشروع
الإمبراطوري الأمريكي، الذي كان يخطط للقفز على بعض الدول المجاورة وغير
المجاورة للعراق، بل إخضاع المنطقة بالكامل للنفوذ، المتمثل باليمين
الأمريكي (المحافظين الجدد).
بالتالي فإنَّ هناك تعويلاً أوربياً،
ومراهنةً غربية على النصر الأمريكي في العراق، حتى صارت خسارة أمريكا في
العراق خسارة لكل شعوب أوربا، قال رئيس الوزراء البريطاني السابق (توني
بلير) : ((إنَّ هزيمة أمريكا في العراق، هزيمة للغرب كله)) وقال (رئيس
هيئة الأركان الأمريكية المشتركة): ((إنَّ قيمة انتصار أمريكا على
المقاومة العراقية يساوي أو يزيد على الانتصار في الحرب العالمية)) وقال
(هنري كسنجر) قبل سنين: ((إن خسارة أمريكا في العراق معناها خسارة الغرب
لكل ما حققه في الخمسة قرون الماضية)).
عار الفرار ..
من الأمور
التي لحقت بجنود الاحتلال هو (فرارهم من خدمتهم الإلزامية) التي أجبروا
على أدائها في جحيم العراق، بسبب ما لاقوه - وما يلاقونه - من مقاومة
شرسة، حتى بلغت معدلات فرار الجنود الأمريكيين من الخدمة أعلى معدل لها
منذ عام (1980م) وبلغت الزيادة في عددهم حوالي (80%) وذلك منذ بدء غزو
العراق في (نيسان/ مارس) عام (2003م)، ورغم أنَّ العدد ما زال أقل مما كان
عليه خلال الحرب الفيتنامية، إلا أنه أخذ يشهد زيادة كبيرة في السنوات
الأربع الماضية، عندما حقق قفزة بلغت نحو (42%) في العام الماضي، ووفقاً
للجيش الأمريكي فإن تسعة جنود من بين كل ألف جندي فروا من الخدمة عام
(2007م)، ليرتفع عدد الجنود الفارين من الخدمة إلى (4698) جنديّاً، مقارنة
بنحو (7) من كل ألف فروا في العام السابق، والذين بلغ عددهم (3301) جندياً
عام (2006م).
وكشفت صحيفة (نيويورك تايمز) الأمريكية أنَّ عدد الجنود
الذين فروا من الجيش الأمريكي، رفضاً للمشاركة في حرب أمريكا على العراق
وأفغانستان في عام (2006م) بلغ (3196) جندياً، ويزيد هذا الرقم من الجنود
الفارين من الجيش الأمريكي عن العدد الذي تم تسجيله في العام الذي سبقه
(2005م) بواقع (853) جندياً.
وقد كشفت مجلة (دير شبيجل) أنَّ أكثر من
(25) ألف جندي أمريكي هربوا من الخدمة العسكرية منذ بداية الحرب في العراق
ولغاية منتصف العام الماضي.. وقد قال أول جندي أمريكي يهرب من العراق
ويطلب اللجوء السياسي في ألمانيا: إنَّ قرار لجوئه إلى ألمانيا جاء بسبب
عدم رغبته في مساعدة بلادهِ على قتل الأبرياء!!.
أما ما يخص الجيش
البريطاني - الذي يعدُّ ثاني أكبر الجيوش المشاركة في احتلال العراق بواقع
(7100) جندي- فقد كشفت وزارة الدفاع البريطانية منذ عام (2006م) عن ارتفاع
وتيـرة فرار الجنود البريطانيين من الخدمة في الجيش بعد احتلال العراق منذ
عام (2003م)، وأكدت الوزارة بأنَّ عدد هؤلاء الجنود البريطانيين الذين
هربوا أو تغيبوا عن الخدمة دون عذر وصل إلى (11 ألف جندي)، وأوضحت الوزارة
أنَّ عدد الجنود الذين فروا هذا العام وحده (2006م) بلغ (283) جندياً،
بينما بلغ عدد الفارين العام الذي سبقه (2005م) حوالي (279) جندياً، في
حين وصل عددهم خلال العام الذي سبقه (2004م) ما يقرب من (157) جندياً.
إنَّ
ظاهرة فرار جنود الاحتلال - بمختلف تشكيلاتهم - يؤكد حقائق لابد من التطرق
إليها والكشف عنها، فهي في حقيقتها تعكس مدى الضغط الذي تتعرض له قوات
الاحتلال، نتيجة المقاومة الشرسة والمنظمة التي يلاقونها بوتيرة متناسقة
دون انقطاع منذ بداية الغزو ولحد هذه اللحظة، فضلاً عن حقيقة التفكك
الرهيب الذي تعيشه تشكيلات تلك الجيوش الغازية بعد أن صحت ضمائر بعض هؤلاء
الجنود في مواجهة التحدي الذي يواجه تلك الجيوش، بعد غياب العامل الوجداني
الذي جاءوا من أجله بحجة تحرير العراقيين من الظلم والاستعباد، بعد أن
تكشف لهم زيف الادعاءات والإغراءات التي مُني بها أولئك الجنود.
انتحار الجنود ..
تشير
مجموعة كبيرة من التقارير المختلفة إلى تنامي حالة الانتحار، التي بدت تقض
مضاجع مسؤولي إدارة البيت الأبيض – السياسيين منهم والعسكريين على حد سواء
- وزاد اهتمامهم بها، وهذه التقارير هي توضيح مناسب لهذه الحالة الخطيرة
التي يتعرض لها جنود الاحتلال، بعد أن أوصلهم إدراكهم بأنَّ الموت أكثر
راحة لهم بكثير من العيش في حياة مليئة بالذل والهوان، بعد أن عجزوا عن
تحقيق المهمة التي طالما كان يحلم بتحقيقها سيد البيت الأبيض السابق (جورج
بوش) بعد أن قال مراراً أن القوات الأمريكية لن تغادر ما لم تحقق مهمتها
في العراق، وهي مهمة مجهولة لا يعلم أحد أي شيء عنها، بما فيهم المشتركون
في العملية السياسية الحالية، ضمن المشروع الأمريكي بعد الاحتلال!!.
وقد
أكدت دراسة أصدرها معهد الصحة النفسية في (ولاية ميرلاند)، وهو أعلى جهة
حكومية بالولايات المتحدة في مجال الصحة النفسية: أنَّ عدد جنود الولايات
المتحدة الذين انتحروا بعد عودتهم من العراق يمكن أن يفوق عدد الجنود
الذين قتلوا هناك منذ احتلاله بحسب الأرقام الأمريكية المعلنة التي يشكك
المتابعون كثيراً بصحتها.
واستند المعهد في استنتاجه إلى جهات حكومية
متعددة، منها وزارة الدفاع الأمريكية (البنتاجون)، إلا أن الناطقة باسم
الوزارة (سينثيا سميث) رفضت نفي النتيجة أو تأكيدها، لكنها قالت: إن
المسؤولين في (البنتاجون) ينظرون إلى حوادث انتحار الجنود الأمريكيين
العائدين من العراق باهتمام كبير!! وقالت الدراسة التي أشرف عليها مدير
المعهد توماس أنسيل: إنَّ البحث امتد لشهور، وتعاونت فيه جهات حكومية
متعددة، منها وزارة الدفاع.
وكانت قضية انتحار (العائدين من العراق)
قد شغلت أجهزة الإعلام الأمريكية لبعض الوقت إلا أنها لم تخضع من قبل
لدراسة إحصائية من جهة لها مصداقية.. وسبق أن أصدر (معهد رانـد) دراسة قال
فيها إن (20%) من الجنود الأمريكيين الذين شاركوا في معارك بالعراق
وأفغانستان يعانون من اضطرابات نفسية شديدة، غير أن دراسة (رانـد) لم تلج
إلى مجال الربط بين وقائع الانتحار وهذه الاضطرابات، ولم تقدم مسحاً
إحصائياً لتلك الوقائع.
وتؤكد التقارير أن عام (2003م) شهد ما يقرب من
(79) حالة انتحار بين جنود الاحتلال الأمريكي، منهم (26) جندياً ضمن
القوات القتالية، بنسبة تتجاوز (12,4) حالة بين كل مائة ألف جندي.
وسُجّل ما يقرب من (141) حالة انتحار خلال الفترة ما بين (2002م) و(2005م).
ودلت
أرقام الجيش على أن أكثر من ألفي جندي حاولوا الانتحار خلال عام (2006م)
وبلغ عدد الجنود الذين انتحروا بالفعل (102) جندياً خلال ذلك العام.
وقد
نقلت (سي أن أن) أنَّ دراسة عسكرية لوزارة الدفاع الأمريكية (البنتاغون)
خلصت إلى أنَّ معدل انتحار أفراد القوات الأمريكية ارتفع خلال عام (2007م)
إلى أعلى مستوى له منذ أكثر من عشرين عاماً.. وبحسب تقارير صادرة عن جيش
الاحتلال الأمريكي، فإنَّ عدد حالات الانتحار بين الجنود الأمريكيين خلال
عام (2007م) بلغ (115) حالة، مقارنة بـ(102) حالة في عام (2006م) الذي كان
هو الآخر يعدّ الأعلى خلال العشرين عاماً الأخيرة.. ويقرّ البنتاغون بأنَّ
السنوات الخمس الأخيرة التي شهدت عمليات عسكرية واسعة في العراق
وأفغانستان قد سجلت ارتفاعاً غير مسبوق في حالات انتحار الجنود الذين ما
زالوا في الخدمة، فيما أشارت الدراسة نفسها إلى أنَّ أكثر من حالتين من
بين كل خمس حالات انتحار لجنود عادوا للتو إلى وطنهم من أماكن القتال التي
يتوزعون عليها في الخارج (العراق وأفغانستان).
غير أنَّ حصيلة عام
(2008م) بشكل عام كانت الأعلى منذ بدء عمليات الإحصاء قبل ثمانية وعشرين
عاماً؛ إذ سجل انتحار (133) جندياً، والذي كان بدوره الرقم الأعلى منذ بدء
الاحتلال بإحصاء عدد المنتحرين في جيشه.. وأشارت التقارير أنه في شهر
كانون الثاني من عام (2009م) زاد عدد الجنود الذين انتحروا على عدد
زملائهم الذين قتلوا بستة أضعاف، وحتى ضمن القوات البحرية "المارينز"،
وبينت الإحصاءات أن عدد المنتحرين من الجنود قد زاد عام (2008م) ليصل إلى
(33)، مقارنة بـ(25) منتحراً عام (2007م) حتى أنها تجاوزت جميع الأرقام
التاريخية.. وهذا ما دفع قاعدة "فورت كامبل العسكرية الأمريكية" إلى إغلاق
أبوابها، بعد توالي حوادث الانتحار بين جنودها.. حتى وصلت نسبة حالات
الانتحار المؤكدة إلى (20.2%) من كل مائة ألف حالة.
وتفيد إحصائيات
الجيش الأمريكي أنَّ (30%) من عمليات الانتحار قام بها جنود لدى إرسالهم
في مهمات، وأنَّ ثلاثة أرباع هؤلاء الجنود كانوا يقومون بأولى عملياتهم..
كما تشير الإحصاءات إلى انتحار جندي من كل ثلاثة أي بنسبة (35%) لدى عودته
من مهمة استغرقت عموماً أكثر من سنة؛ إذ عمد الجيش إلى وضع برامج وقائية،
واتخاذ تدابير للتعرف إلى الجنود الذين يعانون من مشاكل نفسية.
فقد
أقدم (24) جندياً من سلاح البر الأمريكي على الانتحار في العراق، و(39)
بعد عودتهم من الحرب، وذلك ابتداءً من مطلع عام (2008م) وحتى شهر آب من
العام نفسه.
وأوضحت بعض الدراسات: أنَّ عمليات الانتحار مرتبطة بشكل
كبير بعمليات الطلاق، أو الانفصال، أو بسبب الصعوبات المالية، أو لأسباب
أخرى.
ومما يذكر أنَّ جندياً تلقى بريداً من زوجته تقول له فيه (أريد الطلاق)، ثم انتحر.
وهناك
عامل آخر في هذه العمليات وهو الإرهاق الذي يعانيه بعض الجنود لدى عودتهم
والذي قد يؤدي إلى تشويش علاقاتهم الشخصية.. وعلى سبيل المثال: بين الجنود
الـ(102) الذين انتحروا في عام (2006م) هناك (72) جندياً لم يكونوا في
الخارج و (27) كانوا في العراق وثلاثة في أفغانستان.
ومعظم الجنود
الذين انتحروا هم من الشباب الذين تتراوح أعمارهم بين (18) و(24) عاماً،
ولكنَّ الخبراء بدأوا يتحدثون عن ارتفاع عمليات الانتحار لدى الأكبر سناً
وفي صفوف النساء، حيث انتحرت (11) امرأة في (2006م) من اللاتي يخدمن في
صفوف الجيش الأمريكي.
ولعل ملخص هذا الموضوع ما ذكره نائب رئيس أركان
الجيش الجنرال (بيتر شياريللي) الذي ربط حالة ارتفاع عدد المنتحرين من
الجنود الأمريكيين بطول المدة، والوتيرة المتزايدة للمهمات التي تعقد
العلاقات بين الجنود وعائلاتهم.. ورجحت مصادر طبية أن يكون للأمر علاقة
بأشهر الشتاء الباردة والقاسية، وتزايد المهام المرهقة، والإكثار من
الأدوية المضادة للاكتئاب.
وقد نبهت كبيرة أخصائيي علم النفس لدى
قوات الاحتياط الأمريكية (العقيد كاثي بلاتوني) إلى أنَّ الكثير من
الأدوية المضادة للاكتئاب التي يتناولها الجنود تترك آثاراً جانبية، تغذي
فكرة الانتحار لديهم، وخاصة أولئك الذين تتراوح أعمارهم ما بين 18-24
عاماً.
حالة جنود الاحتلال ..
لا يعدو أنَّ يلقى الجندي
الأمريكي نصيبه الحتمي في العراق، فما بين قتله، أو عيشه برعب وخوف دائم
بما يجعل الموت وسيلة راحة من الحياة، وما بين إصابته بحالة نفسية، أو
إعاقة دائمة في جسده، من بتر اليدين أو الرجلين أو أحدهما، أو تشوه خلقي،
وما شابه ذلك.
هناك تقارير ودراسات توضح الحالة الطبية والنفسية التي
يعيشها جنود الاحتلال، سواء في ساحة المعركة في العراق، أو بعد إعاقتهم
ونقلهم إلى بعض المستشفيات خارج العراق، أو بعد انتهاء مدة خدمتهم وعودتهم
إلى وطنهم.
ووفقاً لما أظهرته الإحصائيات؛ فإنَّ عدد حالات الإصابة
بأحد الأمراض النفسية أو العقلية بين الجنود الذين خدموا في العراق أو
أفغانستان زاد بنسبة (58%) خلال عام واحد، فقفزَ العدد من (63.767) ألف
مريض بنهاية شهر حزيران عام (2006م) إلى (100.580) ألف مريض بنفس الشهر من
عام (2007م).. بينما زادت حالات الإصابة بمرض نفسي واحد فقط يُعرف
بـ"اضطراب ما بعد الصدمة" وهو نوع من الاضطرابات العصبية، بنسبة (70%)
خلال نفس الفترة المتقدمة؛ ليصل بذلك عدد المصابين بهذا المرض إلى ما يقرب
من (50) ألفاً، وهو رقم يزيد كثيراً عن رقم الـ(30) ألفاً، الذين تعترف
بهم وزارة الدفاع رسمياً كمصابين في معارك أفغانستان والعراق، وهو ما يعني
أن الكثير من المرضى الذين يصابون بأمراض نفسية نتيجة القتال، يتم حسابهم
ضمن أعداد المصابين.
ومن نافلة القول معرفة أنَّ مرض (اضطراب ما بعد
الصدمة) الذي يعرّف بأنه (اضطراب نفسي خاص يتبع تعرض الشخص لحدث مؤلم جداً
"صدمة" ويتخطى حدود التجربة الإنسانية المألوفة) لم يكن موجوداً في قاموس
الطب النفسي، غير أنه بدأ تدريجياً في الظهور عقب انتهاء الحرب العالمية
الثانية، حيث اكتشفت بعض الأعراض النفسية على الجنود في ميادين الحرب،
ولكن هذا تم تعميمه على ما يحدث عقب الكوارث كالزلازل والفيضانات والصدمات
الكبيرة في الحياة والتي تشمل مجموعات كبيرة من الناس.
وفي إحصائية
نشرت منتصف عام (2008م) بينت ارتفاع نسبة حالات الإصابة باضطرابات ما بعد
الصدمة بين الجنود الأمريكيين الذين خدموا في أفغانستان والعراق بنسبة
(46.4%) في العام (2007م)؛ ليبلغ العدد الإجمالي لحالات الإصابة حوالي
(40) ألف حالة في سنوات الاحتلال الخمس الماضية.
وبحسب إحصاءات أصدرها
الجيش الأمريكي؛ فإنَّ عدد الحالات التي شُخِّصت على أنها "اضطرابات نتيجة
التعرض لصدمات" ارتفع حتى نشر التقرير من (9.549) حالة في عام (2006م) إلى
(13.981) حالة عام (2007م)؛ وذلك في ظل زيادة فترة خدمة الجندي في العراق
من سنة واحدة إلى (15) شهراً, وإرسال المزيد من القوات لمجابهة المقاومة
الساخنة بالعراق وأفغانستان؛ ليصل عدد المصابين الإجمالي إلى (39.366)
حالة في المدة من أول كانون الثاني (2003م) إلى آخر كانون الأول (2007م)..
وأفادت الإحصائية: أنَّ المصابين يشكلون تفصيلاً (28.365) حالة بين أفراد
الجيش, و(5.641) حالة بين مشاة البحرية, و(2.884) بين أفراد البحرية,
و(2.476) بين القوات الجوية.
وعلق الجرّاح في جيش الاحتلال الأمريكي
الجنرال الطبيب (إريك شوميكر) على تلك الأرقام بالقول: إن (المسؤولين لا
يملكون أرقاماً وبيانات يمكن الاعتماد عليها حول عدد الجنود الذين يعانون
من خلل نفسي أو توتر بعد العودة من الحرب أو عدد الجنود الذين سعوا إلى
الحصول على علاج لأعراض هذا الخلل بعد العودة من العراق أو أفغانستان).
وأضاف
إن (ارتفاع عدد الجنود المصابين بهذا النوع من الخلل النفسي في السنوات
الأخيرة يعود إلى زيادة الوعي وتتبع مثل هذه الحالات في الجيش فضلاً عن
تعرض المزيد من القوات لعمليات قتالية).
واعتبر أن (تلك الأرقام لا
تعكس المعدل الحقيقي نظراً لأن عدداً من المصابين بتلك الأعراض لا يسعون
إلى العلاج أو أن بعضاً من المصابين هم من المدنيين العاملين مع الجيش).
ووفقاً
لأرقام وزارة الدفاع (البنتاجون) فإن قوات جيش الاحتلال ومشاة البحرية
شهدت ارتفاعاً كبيراً في عدد الحالات المصابة بخلل نفسي وتوتر بسبب الحرب
حيث بلغ ذلك العدد في قوات جيش الاحتلال (23.365) فيما بلغ في قوات
المارينـز (5.641) جندياً.
بل إنَّ مؤسسة (راند كوربوريشن) أوضحت في
دراسة أعدتها بأنَّ ما لا يقل عن (300) ألف جندي أمريكي من أصل مليون
وستمائة ألف جندي يعانون من اضطرابات نفسية منذ العام (2001م).
ويوجد
لدى جيش الاحتلال في العراق أربع عيادات، يعمل فيها أطباء نفسانيون
وأخصائيون في علم النفس، إلى جانب مرشدين اجتماعيين وممرضين، ويمكن بقاء
جنود الاحتلال فيها؛ لمجرد تبادل الحديث، أو المعالجة، أو للاستراحة فقط.
ولعلَّ
أكبر تلك العيادات تلك التي في (معسكر ليبرتي) الذي يعد من أكبر القواعد
العسكرية الأمريكية في العالم، ويقع قرب مطار بغداد، ويتمركز فيه ما لا
يقل عن خمسين ألف جندي أمريكي.
وتخصص لجنود الاحتلال الأمريكي عيادة
لمعالجة (الإجهاد الناجم عن المعارك)؛ إذ يتم فيها استقبال الجنود من قبل
طبيبٍ نفساني يقوم بتشخيص العلة ووصف العلاج المناسب لها، وفضلاً عن ذلك
يتلقى المريض في تلك العيادة بعض الإرشادات والتوجيهات النفسية التي تلقى
عليه أو تكتب له على جدران العيادة، ولعل من أهمها مخاطبة الجنود بالقول
(لا تترك أبداً زميلاً يقاتل وحده، اصغِ إليه؛ فليست كل الجروح مرئية،
ومنع الانتحار من مسؤولياتك، يجب جلب المساعدة لرفيقك)!!.
ومع كل ذلك؛
فإن ثمة انتقادات لا تنقطع عن إهمال المسؤولين والأطباء الأمريكيين للجنود
الذين يتعرضون لإصابات خلال المعارك التي يشاركون فيها.. ويتمثل ذلك
الإهمال بحالات متعددة أهمها ما يأتي:
1- الإهمال الصحي: وكانت فضيحة
هذا الإهمال لجنود الاحتلال بعد تعرضهم للإصابات وعدم الاكتراث بحالتهم
الصحية، قد تفجّرت في الولايات المتحدة بعدما كشفت صحيفة (واشنطن بوست) عن
المشكلات التي يعاني منها الجنود في مستشفى (ولتر ريد) والتي تعّد أكبر
مستشفى عسكري أمريكي إذ قالت: إنَّ الجنود يستكملون علاجهم هناك في مبنى
متداعٍ يعج بالفئران والغبار والصراصير.. وأكدت أن (البيروقراطية) في هذه
المستشفى تعيق تقديم المساعدات لجنود مصابين بإصابات بالغة.
2- الإهمال
الاجتماعي: بسبب عدم إدراج جملة كبيرة من جنود الاحتلال ضمن قوائم
المصابين، وقد فجرّت صحيفة (يو أس أي توداي) الأمريكية فضيحة جديدة لوزارة
الدفاع (البنتاغون) حيث كشفت عن وجود ما لا يقل عن (20) ألف جندي شاركوا
في القتال بالعراق وأفغانستان، إلا أنهم غير مدرجين على قوائم الجيش
كمصابين، في حين أنهم يعانون من إصابات في المخ نتيجة المهام القتالية.
وفي
جزئية أخرى، تقول إحدى الدراسات أيضاً: إنَّ جنود أمريكا العائدين من
العراق يعانون من أمراض رئوية، قد تودي بحياة المصاب أو تربكها على أقل
تقدير.. وقد أظهرت دراسة جديدة نشرتها مجلة (ويب ميديكال نيوز) الأميركية
أنّ مجموعة كبيرة من الجنود الأميركيين القدامى العائدين من العراق يعانون
من أمراض رئوية.
وكشفت الدراسة أن هؤلاء الجنود يعانون من أحد أنواع
الأمراض الرئوية الذي يصيب القصيبات الهوائية في الرئة، لافتة إلى أن
التهاب القصيبات ينتج عن أسباب عدة منها استنشاق السموم، أو الالتهابات
الجرثومية، أو مرض الروماتيزم.
وأوضح الباحثون الذين أجروا الدراسة:
أن الفحوصات الوظيفية للرئة والفحوصات الشعاعية التي أجريت على (56)
جندياً من الذين بدت عليهم أعراض المرض الرئوي لم تـشر إلى وجود أية
علامات مرضية، لكن تحليل أنسجة الرئة (Biopsy) أظهر فيما بعد تعرض نحو
(30) منهم لالتهاب القصيبات الرئوية، وأن معظمهم شخّصت حالاتهم على وجود
إصابة بالمرض بسبب تعرضهم لفترات طويلة إلى غاز ثاني أوكسيد الكبريت الذي
نتج عن اندلاع حريق في منجم للكبريت قرب إحدى مناطق محافظة الموصل شمال
العراق.
وأوضحت وزارة الدفاع الأميركية أن الدلائل تشير إلى أن
جماعات مسلحة كانت وراء اندلاع هذا الحريق الذي يؤكد المختصون أنه الأكبر
من نوعه على الإطلاق.
وأكدت الفحوصات التي قام بها الجيش الأميركي لنماذج من الهواء في المنطقة حصول التلوث بغاز ثاني أوكسيد الكبريت بنسب ذات سمية واضحة.
وإذا
اتضح ما تقدم؛ فإنَّ من المؤكد أن الحالة النفسية المزرية التي يصاب بها
المعتدون على البلدان المنكوبة لا تحصر إصابتها بالجنود المحتلين، بل
تلاحق حتى السياسيين المتواجدين هناك، نتيجة الضغوط والخوف والقلق الذي
يرافقهم ولا يكاد ينفك عن أحد منهم، وقد أوضحت دراسة بأن (40%) من
دبلوماسيّ أمريكا يعانون أمراضاً نفسية، خاصة في العراق وأفغانستان.
أما
ما يتعلق بجراحة الجنود وبتر الأطراف بسبب الإصابات التي يتعرضون لها في
ساحة الحرب نتيجة المواجهات المستمرة في العراق؛ فقد كشفت صحيفة
(الأوبزرفر) البريطانية أنَّ معدلات عمليات بتر الأطراف التي أجراها
الجراحون العسكريون للجنود الأمريكيين في العراق، قد ازدادت بمعدل الضعف،
مقارنة بالمستويات التي سُجلت في الحروب السابقة، وأشارت الصحيفة إلى أنَّ
(6%) من المصابين من الجنود الأمريكيين هناك يحتاجون إلى عمليات بتر،
مقارنة بـ(3%) في مناطق الصراع الأخرى.
ويؤكد جراح تقويم الأعضاء في
المستشفى العسكري التي تعالج جنود الاحتلال الأمريكي وبعض القوات الأمنية
الحكومية المتعاونة معها في الموصل (الكولونيل وين موسلي) أنَّ الإصابات
الخطرة التي تتطلب البتر وتركيب أطراف اصطناعية تصل إلى (80%) من الإصابات.
أما
جنود بريطانيا، فهم أيضاً يعيشون أياماً مأساوية في العراق، وقد أكدت صحف
بريطانية أن جنود الاحتلال البريطاني العائدين من العراق وأفغانستان
يعانون من مستويات غير مسبوقة من مشاكل الصحة العقلية, إضافة إلى إهمالهم
وتجاهلهم ونسيانهم من قبل الحكومة البريطانية.. وقالت صحيفة (الأندبندنت
أون صنداي): إنً حوالي (21) ألفاً من الجنود البريطانيين - من الذين أدّوا
الخدمة في العراق أو جنود الاحتياط - قد مسّتهم أمراض نفسية من قبيل القلق
والاكتئاب، وإنَّ الأرقام الرسمية تشير إلى (20) عسكرياً بريطانياً أقدموا
على قتل أنفسهم منذ غزو العراق في مارس عام (2003م), فيما يعيش أكثر من
ألف جندي سابق مشردين بلا مأوى.